قال أهل السير : يروى عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه قال : «إن ولدي العباس زقّ العلم زقّاً» [1].[1] انظر أسرار الشهادات (للدربندي) : 324 ، (الطبعة الحجرية).
وذكر المؤرخون : إنّ العباس بن علي كان أعلم أصحاب الحسين عليهالسلام يوم عاشوراء ، وأضجعهم وأصلبهم إيماناً ، وكان بطلاً ، فارساً ، وسيماً ، جسيماً ، بين عينيه أثر السجود ، وكان إذا ركب الفرس المطهم يخطّان رجلاه في الأرض خطّاً.
وبلغ من شجاعته في كربلاء أنّ عمرو بن خالد الصيداوي ، وسعداً مولى حسان بن الحارث ، وجمع بن عبيدة العائدي ، حملوا على أعدائهم فلمّا وغلوا فيهم عطفوا عليهم واقتطعوهم من أصحابهم وأحاطوا بهم ، وقال ابن الأثير :
فانتدب لهم العباس بن علي عليهالسلام وحده ، وحمل على القوم ففرّقهم واستنقذ أصحابه ، فلمّا رآهم وكانوا قد جرحوا عدّة جراحات ، قويت به قلوبهم فتحاملوا بجراحاتهم وجعلوا يقاتلون القوم حتى رجع العباس إلى موقفه.
ومن صلابة إيمانه أنه عليهالسلام لمّا ضاق صدره [كان] ـ ونظر إلى حالة أخيه الحسين عليهالسلام ، وحالة أصحابه ، وحالة عيالاته ـ ينظر الى الحسين عليهالسلام فيشاهده حزيناً كئيباً ، وينظر أصحاب أخيه فيشاهدهم مجزرين كالأضاحي ، وينظر عيالاته فيشاهدهنّ يتصارخن من شدّة العطش ، سئم الحياة ومنعه إيمانه أن يبرز بلا رخصة من أخيه الحسين عليهالسلام ، فجاء الى الحسين عليهالسلام وقال له ، أخي قد ضاق صدري وسئمت الحياة واريد أن أطلب بثاري من هؤلاء المنافقين ، فهل لي من رخصة؟ فقال الحسين عليهالسلام : أجل اطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء ؛ فذهب الى القوم ووعظهم وحذّرهم فما افاد الوعظ ولا التحذير ، رجع الى الحسين وسمع الأطفال ينادون العطش ، أقبل إلى الخيمة ـ ومعه الحسين عليهالسلام ـ ليودّع عياله ويأخذ القربة ليملأها لهم من الفرات ، وقد كانت زينب قالت لأختها اُم كلثوم : اُخية في هذا اليوم كلّ فرد من أخوتنا إذا أراد البراز يأتينا الى المخيّم ويودّعنا ، والآن لم يبق من اخوتنا الا الحسين والعباس ، فإذا جاء إلينا نقسم عليه بالجلوس فإذا جلسا خذي أنت بطرف رداء العباس وأنا آخذ بطرف رداء الحسين ، ولا ندعهما يخرجان من الخيمة. فلما رأتهما الحوراء زينب أقسمت عليهما بالجلوس ، فجلسا فقامت زينب وجلست الى جنب إخيها الحسين ، وكذلك ام كلثوم [جلست] وبيدها رداء العباس وهن يبكين ، فبينما هم في هذا ونحوه إذا المنادي ينادي : يا حسين ويا أبا الفضل جبنتما عن الحرب وجلستما بإزاء النساء ، فنبض العرق الهاشمي بين عيني العباس ، فاجتذب رداءه من اُخته اُم كلثوم وقام ، فتعلقت به اُم كلثوم ، فناداها الحسين : اُخيّه دعيه يمضي فقد اشتاق الحبيب إلى حبيبه ؛ فصاحت زينب : أمري وأمركما إلى الله ، فقام العباس وركب جواده :
لا تنس للعباس حسن مقامه
بالطف عند الغارة الشعواء
واسا أخاه بها وجاد بنفسه
في سقي أطفال له ونساء
ردّ الاُلوف على الاُلوف معاً
رضاً حدّ السيوف بجبهة غرّاء
ويروى أنّه سمع الأطفال ينادون العطش ، رمق السماء بطرفه وقال : «إلهي اُريد أن أعتدُّ بعدّتي ، وأملأ لهؤلاء الأطفال قربتي». فركب فرسه وحمل قربته على كتفه ، وأخذ الرايه معه وقصد المشرعة ، ونزل الى الفرات فلمّا أحسّ ببرد الماء وقد كضّه العطش ، اغترف بيده غرفة ليشرب فذكر وصيّة أبيه أمير المؤمينين عليهالسلام وتذكّر عطش أخيه الحسين عليهالسلام وعيالاته ، رمى الماء من يده وقال : لا والله لا أشرب الماء وأخي الحسين عطشان ، ثم جعل يقول :
يا نفس من بعد الحسين هوني
وبعده لا كنت أو تكوني
هذا حسين وارد المنون
وتشربين بارد المعين
ثم ملأ القربة وحملها على كتفه وخرج من المشرعة ، استقبله الكتائب وصاح ابن سعد : اقطعوا عليه طريقه ، فلما رأى العباس عليهالسلام ذلك حمل عليهم بسيفه وهو يقول :
إنّي أنّا العباس اغدوا بالسقا
ولا أخاف الشرَّ يوم الملتقى
نفسي لنفس الطاهر الطهر وقا
حتى أُوارى ميّتاً عند اللقا
فجعل يقاتلهم مقاتلة الأبطال في ذلك المجال ، حتى قتل منهم جماعة ، فبينما هو يقاتل فجاء سهم الى القربه فأصابها واُريق ماؤها ، فدمعت عيناه ووقف متحيراً ، فبينما هو كذلك أذ أتاه السهم فوقع في عينه اليمنى ، وضربه الحكيم بن الطفيل السنبسي على يمينه فقطعها ، أخذ الواء بشماله وهو يقول :
والله إن قطعتموا يميني
إنّي اُحامي أبداً عن ديني
وعن إمامٍ صادق اليقين
فضربه زيد بن ورقاء الجهني على شماله فقطعها ، فضمّ اللواء إلى صدره ببقيّة يده وهو يقول :
يا نفس لا تخشي من الكفّار
وأبشري برحمة الجبّار
مع النبيّ سيّد الأبرار
مع جملة السادات والأطهار
فقد قطعوا ببغيهم يساري
فأصلهم يا ربّ حرّ النار
فحمل عليه رجل تميمي من أبناء ابان بن دارم وبيده عمود من حديد فضربه على اُم رأسه ، خر صريعاً إلى الأرض ونادى بأعلى صوته : ادركني يا أخي ، فانقضّ عليه الحسين عليهالسلام كالصقر ، فرآه مقطوع اليدين ، مرضوض الجبين ، السهم نابت في العين ، المخّ سائل على الكتفين ، نادى : الآن انكسر ظهري ، الآن قلّت حيلتي ، الان شمت بي عدوي.
ويقال : إنه عليهالسلام أخذ رأسه ووضعه في حجره ، وكان العباس مغمى عليه ، أفاق فظن أنّ رجلاً من الأعداء يريد حزّ رأسه ، فقال العباس عليهالسلام : بالله عليك أمهلني حتى يأتي إليَّ ابن والدي ، فقال له الحسين عليهالسلام : أخي أنا أخوك.
ثم أنّ الحسين وضع رأس العباس على الأرض ، وقام ووضع يديه تحت ظهره أراد حمله إلى المخيم ، فقال العباس : بالله عليك ألا ما تتركني في مكاني ، فقال له الحسين عليهالسلام : لماذا يا أخي؟ فقال العباس : لحاليتين الاُولى فقد نزل بي الموت الذي لابد منه ، والثانية إنّي واعدت سكينة بالماء والآن مستحي منها.
ثم فاضت نفسه الزكية ، فقام الحسين عليهالسلام من عنده وأقبل الى المخيّم يكفكف دموعه بكمّه كي لا تراه النساء ، استقبلته سكينة فقالت له : أين عمّي العباس؟ لعلّه شرب الماء ونسي ما وراه ؛ فقال لها : بني عظّم الله لك الأجر بعمّك العباس ، فصاحت : وا عمّاه وا عباساه ، من للنساء الضائعات [من بعدك] :
عباس تسمع زينباً تدعوك من
لي يا حماي إذ العدى سلبوني
أو لست تسمع ما تقول سكينة
عمّاه يوم الأسر من يحميني
(فائدة) : وفيه يقول : ـ رائياً ـ حفيده الفضل بن الحسن بن عبدالله بن العباس رضوان الله عليهما :
إني لأذكر للعباس موقفه
بكربلاءَ وهام القوم تختطف
يحمي الحسين ويحميه على ظمأ
ولا يولّي ولا يثني فيختلف
ولا أرى مشهداً يوماً كمشهده
مع الحسين عليه الفضل والشرف
أكرم به مشهداً بانت فضيلته
وما أضاع له أفعاله خلف
(فائدة) : روى جماعة عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة ، قال : رأيت رجلاً من بني أبان بن دارم أسود الوجه ، وقد كنت أعرفه قديماً شديد البياض جميلاً ، فسألته عن سبب تغيّره ، وقلت له : ما كدت أعرفك؟! فقال : إنّي حضرت كربلاء وقتلت وسيماً وجسيماً بين عينيه أثر السجود ، فما بت ليلة منذ قتلته إلى الآن إلّا وجائني ذلك الرجل بالنوم وأخذ بتلابيبي وقادني إلى جهنّم ، فيدفعني فيها فأضل أصيح فلا يبقي أحد في الحي إلّا ويسمع صياحي وتنتبه الناس من نومها ، قال الاصبغ : والمقتول هو العباس بن علي بن إبي طالب عليهالسلام.
(فائدة) : وأنّما دفن العباس في مكان مصرعه لأنّ بني أسد ما استطاعوا حمله لتوزيع أعضاءه كما إنّ الحسين عليهالسلام لم يحمله على العادة كما كان يحمل القتلى.
(فائدة)
بذلت أيا عباس نفساً نفيسة
لنصر حسين عز بالمجد عن مثل
أبيت التذاذ الماء قبل التذاذه
فحسن فعال المرء فرع عن الأصل
(نصاري)
خاض الماي بس هيّس ابرّده
ترس چفّه ويروي عطش چبده
تذكّر لن أخوه حسين بعده
ذبّ الماي من چفّة اوتحسّر
هذا الماي يجري ببطون حيّات
وضوگة گبل اخوية احسين هيهات
اظن طفله يويلي من العطش مات
وظن موتي گرب والعمر گصّر
شلون اشرب وخوي حسين عطشان
وسكنه والحرم واطفال رضعان
وظن گلب العليل التهب نيران
يريت الماي بعد لا حله او مر
ثمرات الأعواد : ج : 1 ص : 225.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق