الثلاثاء، 20 مايو 2025

وصية الإمام الجواد: التقوى عقل فوق العقل

  مواعظ أبى جعفر محمد بن على الجواد صلوات الله عليه

عن يزيد بن عبد الله، عمن حدثه قال: كتب أبو جعفر عليه السلام إلى سعد الخير:
 بسم الرحمن الرحيم أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف، والغنيمة في المنقلب، إن الله عز وجل يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله [1] ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله، وبالتقوى نجى نوح ومن معه في السفينة وصالح ومن معه من الصاعقة، وبالتقوى فاز الصابرون ونجت تلك العصب [2] من المهالك ولهم إخوان على تلك الطريقة، يلتمسون تلك الفضيلة، نبذوا طغيانهم من الايراد بالشهوات لما بلغهم في الكتاب من المثلات، حمدوا ربهم على ما رزقهم وهو أهل الحمد، وذموا أنفسهم على ما فرطوا وهم أهل الذم، واعلموا أن الله تبارك وتعالى الحليم العليم إنما غضبه على من لم يقبل منه رضاه، وإنما يمنع من لم يقبل منه عطاه، وإنما يضل من لم يقبل منه هداه، ثم أمكن أهل السيئات من التوبة بتبديل الحسنات، دعا عباده في الكتاب إلى ذلك بصوت رفيع لم ينقطع ولم يمنع دعاء عباده، فلعن الله الذين يكتمون ما أنزل الله وكتب على نفسه الرحمة، فسبقت قبل الغضب فتمت صدقا وعدلا، فليس يبتدء العباد بالغضب قبل أن يغضبوه، وذلك من علم اليقين وعلم التقوى، وكل أمة قد رفع الله عنهم علم الكتاب حين نبذوه وولاهم عدوهم حين تولوه. وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية، وكان من نبذهم الكتاب أن ولوه الذين لا يعلمون [3] فأوردوهم الهوى، وأصدروهم إلى الردى وغيروا عرى الدين، ثم ورثوه في السفه والصبا [4] فالأمة يصدرون عن أمر الناس بعد أمر الله تبارك وتعالى وعليه يردون، بئس للظالمين بدلا ولاية الناس بعد ولاية الله .

[1] عزب أي بعد، وفى بعض النسخ " نفى بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ". 
[2] العصب: جمع العصبة أو هي من الرجال والخيل والطير ما بين العشرة إلى الأربعين. 
[3] أي جعلوا ولى الكتاب والقيم عليه والحاكم به الذين لا يعلمونه وجعلوهم رؤساء على أنفسهم يتبعونهم في الفتاوى وغيرها. 
[4] أي جعلوه ميراثا يرثه كل سفيه جاهل أو صبي غير عاقل. وقوله: " بعد أمر الله " أي صدوره أو الاطلاع عليه أو تركه، والورود والصدور كنايتان عن الاتيان للسؤال والاخذ والرجوع بالقبول. كما قال المؤلف.

[1] وثواب الناس بعد ثواب الله، ورضا الناس بعد رضا الله، فأصبحت الأمة كذلك وفيهم المجتهدون في العبادة على تلك الضلالة، معجبون مفتونون فعبادتهم فتنة لهم ولمن اقتدى بهم، وقد كان في الرسل ذكرى للعابدين، إن نبيا من الأنبياء كان يستكمل الطاعة [2] ثم يعصي الله تبارك وتعالى في الباب الواحد فيخرج به من الجنة [3] وينبذ به في بطن الحوت، ثم لا ينجيه إلا الاعتراف والتوبة. فاعرف أشباه الأحبار والرهبان الذين ساروا بكتمان الكتاب وتحريفه فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، ثم اعرف أشباههم من هذه الأمة الذين أقاموا حروف الكتاب وحرفوا حدوده [4] فهم مع السادة والكبرة فإذا تفرقت قادة الأهواء كانوا مع أكثرهم دنيا وذلك مبلغهم من العلم [5].

[1] " ولاية الناس " هو المخصوص بالذم. 
[2] أشار به إلى يونس عليه السلام. والمراد بعصيانه غضبه على قومه وهربه منهم بغير اذن ربه، روى أنه لما وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله تعالى. واعلم أن العصيان هنا ترك الأفضل والأولى وذلك لأنه لم يكن هناك أمر من الله تعالى حتى عصاه بترك الاتيان به أو نهى منه حتى خالفه بارتكابه فاطلاق لفظ العصيان مجاز عن ترك الأولى والأفضل وذلك بالنسبة إلى درجات كمالهم بمنزلة العصيان.
 [3] اطلاق الجنة على الدنيا لعل بالإضافة إلى بطن الحوت. كما في الوفي. 
[4] شبه هؤلاء العباد وعلماء العوام المفتونين بالحطام بالأحبار والرهبان لشرائهم الدنيا بالآخرة بكتمانهم العلم وتحريفهم الكلم عن مواضعها وأكل أموال الناس بالباطل وصدهم عن سبيل الله كما أنهم كانوا كذلك على ما وصفهم الله في القرآن في عدة مواضع، والمراد بالسادة والكبرة السلاطين والحكام وأعوانهم الظلمة. والكلام يدل على أن التحريف الواقع في القرآن كان في معناه لا في ألفاظه كما توهمه بعض من لا خبرة له بمعاريض الكلام. 
[5] إشارة إلى الآية 31 من سورة النجم " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ". والطبع - بالتحريك -: الرين و - بالسكون - الختم.

 لا يزالون كذلك في طمع وطبع، ولا يزال يسمع صوت إبليس على ألسنتهم بباطل كثير، يصبر منهم العلماء على الأذى والتعنيف، ويعيبون على العلماء بالتكليف [1] والعلماء في أنفسهم خانة اكتموا النصيحة، إن رأوا تائها ضالا لا يهدونه، أو ميتا لا يحيونه، فبئس ما يصنعون لان الله تبارك وتعالى أخذ عليهم الميثاق في الكتاب أن يأمروا بالمعروف وبما أمروا به وأن ينهوا عما نهوا عنه، وأن يتعاونوا على البر والتقوى ولا يتعاونوا على الاثم والعدوان، فالعلماء من الجهال في جهد وجهاد إن وعظت قالوا: طغت وإن علموا الحق [2] الذي تركوا قالوا: خالفت، وإن اعتزلوهم قالوا: فارقت وإن قالوا: هاتوا برهانكم على ما تحدثون، قالوا: نافقت وإن أطاعوهم [قالوا:] عصت الله عز وجل [3] فهلك جهال فيما لا يعلمون، أميون فيما يتلون، يصدقون بالكتاب عند التعريف ويكذبون به عند التحريف، فلا ينكرون. أولئك أشباه الأحبار والرهبان، قادة في الهوى، سادة في الردى، وآخرون منهم جلوس بين الضلالة والهدى لا يعرفون إحدى الطائفتين من الأخرى، يقولون ما كان الناس يعرفون هذا، ولا يدرون ما هو وصدقوا، تركهم رسول الله صلى الله عليه وآله على البيضاء [4] ليلها من نهارها لم يظهر فيهم بدعة ولم يبدل فيهم سنة لا خلاف عندهم ولا اختلاف، فلما غشى الناس ظلمة خطاياهم، صاروا إمامين داع إلى الله تبارك وتعالى، وداع إلى النار، فعند ذلك نطق الشيطان فعلى صوته على لسان أوليائه وكثر خيله ورجله [5] وشارك في المال والولد من أشركه، فعمل بالبدعة، وترك الكتاب والسنة، ونطق أولياء الله بالحجة وأخذوا بالكتاب والحكمة فتفرق من ذلك اليوم أهل الحق وأهل الباطل.

[1] " منهم " أي من أشباه الأحبار والرهبان " العلماء " يعنى العلماء بالله الربانيين " بالتكليف " يعنى تكليفهم بالحق. 
[2] في بعض النسخ " عملوا الحق ". 
[3] ليس في بعض النسخ " قالوا ". 
[4] يعنى الشريعة، الواضح مجهولها عن معلومها وعالمها عن جاهلها. 
[5] الخيل: جماعة الفرسان والرجل: جماعة المشاة أي أعوانه القوية والضعيفة.

 وتخاذل [1] وتهادن أهل الهدى وتعاون أهل الضلالة حتى كانت الجماعة مع فلان وأشباهه، فاعرف هذا الصنف وصنف آخر فأبصرهم رأي العين تحيا [2] وألزمهم حتى ترد أهلك، فان الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين. إلى ههنا رواية الحسين، وفي رواية محمد بن يحيى زيادة: " لهم علم بالطريق فإن كان دونهم بلاء فلا تنظر إليهم فإن كان دونهم [3] عسف من أهل العسف وخسف [4] ودونهم بلايا تنقضي ثم تصير إلى رخاء. ثم اعلم أن إخوان الثقة ذخائر بعضهم لبعض ولولا أن تذهب بك الظنون عني [5] لجليت لك عن أشياء من الحق غطيتها ولنشرت لك أشياء من الحق كتمتها، ولكني أتقيك وأستبقيك، وليس الحليم الذي لا يتقى أحدا في مكان التقوى، والحلم لباس العالم فلا تعرين ومنه والسلام ".الكافي ج 8 ص 56 تحت رقم 16.

[1] أي تركوا نصرة الحق. وفى بعض النسخ " تخادن " من الخدن وهو الصديق. وتهادن من المهادنة بمعنى المصالحة، وفى بعض النسخ " تهاون " أي عن نصرة الحق وهذا أنسب بالتخاذل كما أن التهادن أنسب بالتخادن. 
[2] في بعض نسخ المصدر " نجباء " وفى بعضها " نجيا ". 
[3] في بعض النسخ " إليه فان دونهم " وهو الصواب أي فلا ينظرون إلى البلاء لأنها تنقضي ولا تبقى. 
[4] العسف: الجور والظلم وهو في الأصل أن يأخذ المسافر على غير طريق ولا جادة ولا علم. قيل: هو ركوب الامر من غير روية. والخسف: النقصان والهوان. وقوله: " تنقضي " جزاء الشرط. 
[٥] أي يصير ظنك السيئ بي سببا لانحرافك عنى وعدم اصغائك إلى بعد ذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

استحباب اختيار زيارة الرضا في رجب

    استحباب إختيار زيارة الرضا ( عليه السلام ) وخصوصا في رجب على الحج والعمرة المندوبين 1 - عن  أبي الحسن موسى ( عليه السلام )  قال : من ...