تطاير الكتب ، وانطاق الجوارح ، وسائر الشهداء في القيامة
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أما إن الله عزوجل كما أمركم أن تحتاطوا لانفسكم ووأديانكم وأموالكم باستشهاد الشهود العدول عليكم فكذلك قد احتاط على عباده ولكم في استشهاد الشهود عليهم ، فلله عزوجل على كل عبد رقباء من كل خلقه ومعقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ويحفظون عليه ما يكون منه من أعماله وأقواله وألفاظه وألحاظه ، والبقاع التي تشتمل عليه شهود ربه له أو عليه ، والليالي والايام والشهور شهوده عليه أو له ، وسائر عباد الله المؤمنين شهوده عليه أو له ، وحفطته الكاتبون أعماله شهود له أو عليه ، فكم يكون يوم القيامة من سعيد بشهادتها له ، وكم يكونوا يوم القيامة من شقي بشهادتها عليه ، إن الله عزوجل يبعث يوم القيامة عباده أجمعين وإماءه فيجمعهم في صعيد واحد ، ينفذهم البصر ، [1] ويسمعهم الداعي ، ويحشر الليالي والايام ، ويستشهد البقاع والشهور على أعمال العباد ، فمن عمل صالحا شهدت له جوارحه وبقاعه وشهوده وأعوامه وساعاته وأيامه وليالي الجمع وساعاتها وأيامها فيسعد بذلك سعادة الابد ، ومن عمل سوءا شهدت عليه جوارحه وبقاعه وشهوره ووأعوامه وساعاته وليالي الجمع وساعاتها وأيامها فيشقى بذلك شقاء الابد ، فاعملوا ليوم القيامة وأعدوا الزاد ليوم الجمع ـ يوم التناد ـ وتجنبوا المعاصي فبتقوى الله يرجى الخلاص ، فإن من عرف حرمة رجب وشعبان ووصلهما بشهر رمضان ـ شهر الله الاعظم ـ شهدت له هذه الشهور يوم القيامة ، وكان رجب وشعبان وشهر رمضان شهوده بتعظيمه لها ، وينادي مناد : يا رجب ويا شعبان ويا شهر رمضان كيف عمل هذا العبد فيكم؟ وكيف كانت طاعته لله عزوجل؟ فيقول رجب وشعبان وشهر رمضان : يا ربنا ما تزود منا إلا استعانة على طاعتك ، واستمدادا لمواد فضلك ، ولقد تعرض بجهده لرضاك ، وطلب بطاقته محبتك فقال للملائكة الموكلين بهذه الشهور : ماذا تقولون في هذه الشهادة لهذا العبد؟ فيقولون : يا ربنا صدق رجب وشعبان وشهر رمضان ، ما عرفناه إلا متلقيا في طاعتك ، مجتهدا في طلب رضاك ، صائرا فيه إلى البر والاحسان[2] ولقد كان بوصوله إلى هذه الشهور فرحا مبتهجا ، أمل فيها رحمتك ، ورجا فيها عفوك ومغفرتك ، وكان مما منعته فيها ممتنعا ، وإلى ما ندبته إليه[3] فيها مسرعا ، لقد صام ببطنه وفرجه وسمعه وبصره وسائر جوارحه ، ولقد ظمأ في نهارها ونصب في ليلها ، وكثرت نفقاته فيها على الفقراء والمساكين ، وعظمت أياديه وإحسانه إلى عبادك صحبها أكرم صحبة ، وودعها أحسن توديع ، أقام بعد انسلاخها عنه على طاعتك ، ولم يهتك عند إدبارها ستور حرماتك ، فنعم العبد هذا.
فعند ذلك يأمر الله تعالى بهذا العبد إلى الجنة فتلقاه ملائكة الله بالحباء[4] والكرامات ، ويحملونه على نجب النور وخيول البرق ، ويصير إلى نعيم لا ينفد ، ودار لا تبيد ، لا يخرج سكانها ، ولا يهرم شبانها ولا يشيب ولدانها ، ولا ينفد سرورها وحبورها ، ولا يبلى جديدها ، ولا
يتحول إلى الغموم سرورها ، ولا يمسهم فيها نصب ، ولا يمسهم فيها لغوب ، قد أمنوا العذاب ، وكفوا سوء الحساب ، وكرم منقلبهم ومثواهم[5] ـ وساق الحديث إلى أن قال ـ :
ما من امرأتين احترزتا في الشهادة فذكرت إحديهما الاخرى [6] حتى تقيما الحق وتتقيا الباطل إلا وإذا بعثهما الله يوم القيامة عظم ثوابها ولا يزال يصب عليهما النعيم ويذكرهما الملائكة ما كان من طاعتهما في الدنيا وما كانتا فيه من أنواع الهموم فيها وما أزاله الله عنهما حتى خلدهما في الجنان ، وإن فيهن لمن تبعث يوم القيامة فيؤتى بها قبل أن تعطى كتابها فترى السيئات بها محيطة وترى حسناتها قليلة فيقال لها يا أمة الله هذا سيئاتك فأين حسناتك؟
فتقول لا أذكر حسناتي ، فيقول الله لحفظتها : يا ملائكتي تذاكروا حسناتها وذكروا خيراتها ، فيتذاكرون حسناتها يقول الملك الذي على اليمين للملك الذي على الشمال : أما تذكر من حسناتها كذا وكذا؟ فيقول : بلى و لكني أذكر من سيئاتها كذا وكذا فيعدد ، ويقول الملك الذي على اليمين له : أفما تذكر توبتها منها؟ قال : لا أذكر ، قال أما تذكر أنها وصاحبتها تذكرتا الشهادة التي كانت عندهما حتى أيقنتا وشهدتاها ولم تأخذهما في الله لومة لائم؟ فيقول : بلى ، فيقول الملك الذي على اليمين للذي على الشمال : أما تلك الشهادة منهما توبة ماحية لسالف ذنوبهما ، ثم تعطيان كتابهما بأيمانهما فتوجد حسناتهما كلها مكتوبة وسيئاتهما كلها ثم تجدان في آخرهما : يا أمتي [7] أقمت الشهادة بالحق للضعفاء على المبطلين ولم تأخذك فيها لومة اللائمين[8] فصيرت لك ذلك كفارة لذنوبك الماضية ومحوا لخطيئاتك السالفة. بحار الأنوار - ط دارالاحیاء التراث ج:7 ص: 315 - 317.
تفسير الامام العسكري عليه السلام.
[1]كذا في نسخة المصنف والظاهر أنه بالدال المهملة ، قال الجزرى : في حديث ابن مسعود : إنكم لمجموعون في صعيد واحد ينفدكم البصر. يقال : نفدنى بصره : إذا بلغنى وجاوزنى ، قيل : المراد به بصر الرحمن حتى تأتى عليهم كلهم ، وقيل : أراد : ينفدهم بصر الناظر لاستواء الصعيد. قال أبوحاتم : أصحاب الحديث يروونه بالذال المعجمة وإنما هو بالمهملة ، أى يبلغ أولهم وآخرهم حتى يراهم كلهم ويستوعبهم من نفد الشئ وأنفدته ، وحمل الحديث على بصر المبصر أولى من حمله على بصر الرحمن لان الله يجمع الناس يوم القيامة في أرض يشهد جميع الخلائق فيها محاسبة العبد الواحد على انفراده ويرون ما يصير إليه.
[2]في التفسير المطبوع : سائر ( صابرا خ ل ) إلى البر والاحسان. ولعل صابرا مصحف صائرا ، لان الصبر لا يتعدى بالى.
[3]ندب فلانا للامر أو إلى الامر : دعاه ورشحه للقيام وبه وحثه عليه.
[4]الحباء : العطية.
[5]في التفسير المطبوع : مكرم منقلبهم ومثواهم. قلت : إلى هنا تم الحديث ، وما يأتى بعد ذلك ذيل لحديث آخر. راجع التفسير.
[6]في التفسير المطبوع : فتذكرت احديهما الاخرى.
[7]في التفسير المطبوع : فتجدان حسناتهما كلها مكتوبه فيه وسيئاتهما كلها ، ثم تجدان في آخره : يا أمتى اه.
[8]في التفسير المطبوع : ولم تأخذك في الله ( فيها خ ل ) لومة لائم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق