ليلة الهجرة ومبيت الامام أمير المؤمنين (عليه السلام)
على فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وفي حياة مؤمن قريش أبي طالب رضوان الله عليه ورحم الله من قال وصدق:
ولولا أبو طالب وابنه * * * لما مثل الدين شخصاً وقاما
فذاك بمكّة آوى وحامى * * * وهذا بيثرب جسّ الحماما
فلّله ذا فاتحاً للهدى * * * ولله ذا للمعالي ختاما
كان رسول الله (عليه السلام) في حماية أبي طالب وابنه علي (عليه السلام)،
وفي مأمن من مؤامرات قريش ومكائدهم،
وعلى الرغم من كلِّ ذلك ما كان ينجو من الاعتداءات والاذى إبّان الدعوة،
من رميه بالحجارة، وقَذفِهِ بالدم، ورفث القرابين التي تُنحر للاصنام، وتلويث ملابسه الطاهرة عندما كان يطوف بالكعبة أو يصلّي فيها.
وكانوا يؤذون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكل وسيلة تصل أيديهم الاثمةِ إليه،
أو يجدون سبيلاً، حتّى وصل الامر بهم إلى محاربته محاربة نفسية، هادفين من وراء ذلك خنق الدعوة في مهدها قبل أن يستفحل الامر،
وينتشر خارج نطاق مكّة،
لا سيّما إذا وجدت مخرجاً إلى يثرب أو المدن الكبيرة الاخرى،
ولما فشلت مساعي قريش في صدِّ الدعوة وأعياهم الجهد والحيل، عند ذلك عمدوا إلى صبيانهم وغَرّو جهالهم أن يرموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحجارة
والرفث والتراب عندما يمر بطريقه عليهم.
شكى ذلك إلى أخيه وابن عمِّه علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فقال له:
بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، إذا خرجت أخرجني معك. كان يرافقه (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّما يخرج إلى الحرم للطواف وقد تعرّض له الصبيان بالطريق فكان علي (عليه السلام)
يمسك الواحد منهم من أُذنه فيقضمها، أو يمسك أنفه فيجدعه،
وبعدها صاروا يهربون من بين يديه صائحين باكين إلى آبائهم، يقولون:
قضمنا علي، قضمنا علي. وما عادوا بعد ذلك إلى أذيّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وسُمِّي عليٌّ (عليه السلام) من ذلك الحين بالقضم واشتهر به.
وهكذا كان ديدنهم في أذيّة النبي ومحاربته، وكان في كلِّ تلك المصائب صابراً صامداً كما أمره تعالى في محكم كتابه المجيد:
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) سورة هود 11:اية112
أو (وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) سورة الانفال 8:اية46
أو (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) سورة الاحقاف 46: اية35
الي ان لبّت نداء ربّها زوجته الطاهرة خديجة الكُبرى سلام الله عليها، والتي كانت احد أركان دعوته المجيدة، وبعد فترة قصيرة من فراق زوجته التحق بالرفيق الاعلى عمّه أبو طالب سلام الله عليه وبموته انهدَّ ركنه الثاني،
فجزع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحزن عليهما حزناً شديداً، حتّى سُمّيَ ذلك العام بعام الاحزان، لفقد الاحبَّة والكافلين له،
وقد كانا له بمنزلةِ الجناحين يطير بهما. وبقي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وحده مع ابن عمّه علي بن أبي طالب (عليه السلام)وعدد من المؤمنين المستضعفين،
يقارعون الكفار والمشركين من قريش وغيرهم ويتحمّلون الاذى ;
عند ذلك نشط الكفّار والمشركون بعد فقد زوجته وعمِّه، وقامت قيامتهم لمّا خلا الجو لهم، وهبّوا عن بَكرةِ أبيهم وعزموا على اغتيال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتلهِ.
اجتمعت مشيخة قريش ورؤساء قبائلهم في دار الندوة يتداولون الامر، ويتذاكرون في كيفية تنفيذ المؤامرة والخلاص منه ومن دعوته،
واشترك معهم إبليس لعنه الله بصفة رجل غريب جاء من نجد ودخل معهم، فلمّا أنكروه قال:
إنّي من نجد أسمع منكم وأُشير عليكم .وبعد المناقشات والمداولات،
استقر رأيهم على أن تخرج قريش من كل قبيلة منهم رجلاً شجاعاً، ويبيتوا على دار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وعند الفجر يهجموا عليه بجمعهم ويضربوه ضربة رجل واحد ويقتلوه،
وعند ذلك يتفرّق دمه بين قبائل قريش، فحينئذ لا يستطيع بنو هاشم قتال جميع قبائل قريش والاخذ بثأره، فيضطرون عند ذلك بقبول ديته،
والرضوخ لجمعهم. وكان أبو لهب عمّه مع المشركين مشتركاً في المؤامرة.
وفي رواية:
كان المتآمرون أربعون رجلاً يمثّلون أربعين قبيلة. وفي رواية اُخرى: كانوا خمسة عشر رجلاً يمثلون خمسة عشر قبيلة. وفي رواية ثالثة: كان المتآمرون عشرة رجال يمثلون عشرة قبائل.
على أي حال، نزل الامين جبرائيل بهذه الاية المباركة:
(وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَو يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ) سورة الانفال 8 : آية 30.
وأخبره بتفاصيل المؤامرة، وأمره أن يهاجر من مكّة هذه الليلة إلى يثرب،
ويجعل أخاه وابن عمّه علي بن أبي طالب (عليه السلام) مكانه، والمبيت على فراشه.
فأرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي (عليه السلام) يخبره بتفاصيل المؤامرة،
وهبوط الامين جبرائيل بالاية، قائلاً له:
يا علي، إنَّ الروح الامين هبط عليَّ الساعة يخبرني أنَّ قريشاً اجتمعت على المكر بي وقتلي، وأوحى إليَّ عن ربّي أن أهجر دار قومي، وأن أنطلق إلى غار حراء في جبل ثور ،
تحت ليلتي هذه، وقد أمرني أن آمرك بالمبيت على فراشي وفي مضجعي،
لتخفي بمبيتك عليهم أثري، فما أنت قائل؟
فقال عليٌّ (عليه السلام):
أوتسلمنَّ بمبيتي يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
نعم.
فتبسَّم ضاحكاً، وأهوى إلى الارض ساجداً شاكراً لله.
فكان علي (عليه السلام) أوّل من سجد للهِ شكراً، وأول من وضع جبهته على الارض معفرها بالتراب، وقال:
فداك سمعي وبصري، مُرني بما شئت تجدني مطيعاً مُنفِّذاً . فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
فارقد على فراشي، واشتمل ببردي الحضرمي ;
ثمَّ إنّي أُخبرك يا عليّ، إنَّ الله تبارك وتعالى، يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه،
فأشدُّ الناس بلاءً الانبياء، ثمَّ الامثل فالامثل ; وقد امتحنك يابن أُمّ وامتحنني فيك،
مثل ما امتحن به خليله إبراهيم(عليه السلام)، والذبيح إسماعيل (عليه السلام)،
فصبراً صبراً، فإنَّ رحمة الله قريب من المحسنين. ثم ضمَّه إلى صدره (صلى الله عليه وآله وسلم)
وبكى إليه وجداً به، وفرقاً عليه، بكى عليٌّ (عليه السلام) جزعاً على فراقه.
فجاءت قريش قاصدةً تنفيذ خطتها ومؤامرتها، وأحاطوا بالدار، وجلس أكثرهم بالباب يحرسونها ريثما يطلع الفجر ليثبوا على داره وثبة رجل واحد ويقتلوه.
وخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدار مارَّاً من بين أيديهم، آخذاً حفنةً من التراب رمى با على وجوههم،
قائلاً لهم:
شاهت الوجوه، وقرأ الاية الكريمة: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) سورة يس 36:اية 9
فغشي على أعينهم ولم يروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا مرّ بهم،
وانطلق متوجِّهاً إلى غار ثور، وصادفه أبو بكر بالطريق فالتحق به ورافقه المسير.
عند ذلك أوحى الله تبارك وتعالى
إلى جبرئيل وميكائيل:
إنِّي آخيت بينكما، وجعلتُ عمر أحدكما أطول من الاخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟
فاختار كل واحد منهما الحياة، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليهما: ألا كنتما مثل عبدي علي بن أبي طالب! آخيتُ بينه وبين محمّد عبدي ورسولي، فبات على فراشه فادياً له بنفسه ويؤثره بالحياة ;
اهبطا إلى الارض فاحفظاه من عدوه.
فنزلا، فكان جبرئيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل يقول:
بخ بخ، من مثلك يابن أبي طالب، يباهى الله سبحانه بك ملائكته؟!وأنزل الله عزَّ وجلَّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بطريقه إلى يثرب في شأن علي بن ابي طالب (عليه السلام) هذه الاية الكريمة المباركة:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ )البقرة 2 :اية.207
بات عليٌّ (عليه السلام) على فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ملتحفاً ببرده الحضرمي، والمشركون يرمونه بالحجارة بين الفينة والفينة،
وهم يتصورون أنّه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو صابر يتضور من شدّة الالم،
ولا يُبدي أي حركة لئلا ينكشف أمره.
فلما طلع الفجر وثب المشركون على الدار شاهرين سيوفهم، قاصدين فراش النبي،
صلوات الله عليه وآله، فنهض أمير المؤمنين علي (عليه السلام)من فراش النبي شاهراً سيفه،
ولمّا رأوه أسقط ما في أيديهم، وقالوا: عليٌّ هذا؟
! قال: نعم. قالوا:
أين محمّد؟
قال: أجعلتموني عليه رقيباً؟!
ألستم قلتم: نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم. قالوا: كنتَ تخدعنا منذ الليل بنومك على فراشه،
وظننّا أنّك محمّد؟
فتركوه وتتبعوا أثره حتّى وصلوا إلى باب الغار في جبل ثور، الذي اختفى فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه أبو بكر،
فوجدوا على باب الغار نسيج العنكبوت، وطير راقد على فراخه، فقالوا:
إلى هنا انقطع أثره، أمَّا أنّه صعد إلى السماء، أو نزل إلى الارض، ولا يمكن دخول الغار،
وهذا نسيج العنكبوت وعش الطير ببابه.
فرجعوا خائبين. وبقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه ثلاثة أيّام في الغار،
وكان عليٌّ (عليه السلام) يأتيه بالطعام كلَّ يوم، وفي اليوم الثالث جاء عليٌّ(عليه السلام)
ومعه الدليل وثلاث جمال، واحدٌ له، والاخر لصاحبه، والثالث للدليل، فركبها وانطلقا إلى يثرب.
وسبق أن أوصاه:
إذا أتاك كتابي اقض ديني، وردَّ الودائع التي عندي إلى أصحابها،
والتحق بي مع الفواطم. وكان (عليه السلام)،
يعتز ويفتخر بهذه الموفقية التي نالها من عند الله تعالى، فأنشد يقول:
وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى * * * ومَن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
ِ محمّد لمّا خاف أن يمكروا به * * * فوقّاه ربّي ذو الجلال من المكر
ِ وبتُّ أراعيهم حتّى ينشرونني * * * وقد وطّنت نفسي على القتل
والاسرِ وبات رسول الله في الغار آمناً * * * هناك وفي حفظ الاله وفي سترِ
أقام ثلاثاً ثمّ زمت قلائصٌ * * * قلائص يفرين الحصى أينما يفري
هذا العمل العظيم والتضحية الجسيمة التي أقدم عليها هذا البطل العظيم وهو لا يزال في شرخ الشباب وباكورة عمره الشريف،
الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه، وقع من أهل السماء موقع الاعجاب والاكبار والتقدير، وبهذه المواساة الفريدة في تاريخ الاسلام، بل وفي تأريخ الانبياء كافّة عدا تضحية جده الامجد النبي إسماعيل (عليه السلام)، إذ قال له أبوه إبراهيم الخليل عليه أفضل التحية والسلام:
(يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكْ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)
سورة الصافات 37: اية102
فلا غرو ولا عجب أن طأطأ عظماء العالم رؤوسهم إجلالاً وإكباراً لعظمتهِ وإقدامه وتضحيته صلوات الله وسلامه عليه.
اذكر الواقعة بالمعنى، لا بالنص، حسبما استخلصتها من السيِّيَرِ والروايات والتواريخ وخاصّة
من كتاب «عليٌّ من المهد إلى اللحدِ» للسيّد القزويني ص57.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق