الخميس، 11 أغسطس 2022

خطبة فاطمة الصغرى بعد مقتل الحسين عليه السلام في الكوفة

 خُطبَةُ فاطِمَةَ الصُّغرى‌ في أهلِ الكوفَةِ[1]

حَدَّثَني أبي عَن جَدِّي [الصّادِقِ ]عليه السلام : خَطَبَت فاطِمَةُ الصُّغرى‌ بَعدَ أن وَرَدَت مِن كَربَلاءَ ، فَقالَت : الحَمدُ للَّهِ‌ِ عَدَدَ الرَّملِ وَالحَصى‌ ، وزِنَةَ العَرشِ إلَى الثَّرى‌ ، أحمَدُهُ واُؤمِنُ بِهِ وأتَوَكَّلُ عَلَيهِ ، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ ، وأنَّ مُحَمَّداً صلى اللَّه عليه وآله عَبدُهُ ورَسولُهُ ، وأنَّ ذُرِّيَّتَهُ ذُبِحوا بِشَطِّ الفُراتِ بِغَيرِ ذَحلٍ‌[2] ولا تِراتٍ .[3]

اللَّهُمَّ إنّي أعوذُ بِكَ أن أفتَرِيَ عَلَيكَ الكَذِبَ ، وأن أقولَ عَلَيكَ خِلافَ ما أنزَلتَ مِن أخذِ العُهودِ لِوَصِيَّةِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام ، المَسلوبِ حَقُّهُ ، المَقتولِ بِغَيرِ ذَنبٍ - كَما قُتِلَ وَلَدُهُ بِالأَمسِ - في بَيتٍ مِن بُيوتِ اللَّهِ ، فيهِ مَعشَرٌ مُسلِمَةٌ بِأَلسِنَتِهِم . تَعساً لِرُؤوسِهِم ، ما دَفَعَت عَنهُ ضَيماً[4] في حَياتِهِ ولا عِندَ مَماتِهِ ، حَتّى‌ قَبَضتَهُ إلَيكَ مَحمودَ النَّقيبَةِ[5] ، طَيِّبَ العَريكَةِ[6] ، مَعروفَ المَناقِبِ ، مَشهورَ المَذاهِبِ ، لَم تَأخُذهُ اللَّهُمَّ فيكَ لَومَةُ لائِمٍ ولا عَذلُ عَاذِلٍ . هَدَيتَهُ يا رَبِّ لِلإِسلامِ صَغيراً ، وحَمِدتَ مَناقِبَهُ كَبيراً ، ولَم يَزَل ناصِحاً لَكَ ولِرَسولِكَ صَلَواتُكَ عَلَيهِ وآلِهِ حَتّى‌ قَبَضتَهُ إلَيكَ ، زاهِداً فِي الدُّنيا ، غَيرَ حَريصٍ عَلَيها ، راغِباً فِي الآخِرَةِ ، مُجاهِداً لَكَ في سَبيلِكَ ، رَضيتَهُ فَاختَرتَهُ وهَدَيتَهُ إلى‌ صِراطٍ مُستَقيمٍ . أمّا بَعدُ ، يا أهلَ الكوفَةِ ! يا أهلَ المَكرِ وَالغَدرِ وَالخُيَلاءِ[7] ! فَإِنّا أهلُ بَيتٍ ابتَلانَا اللَّهُ بِكُم وَابتَلاكُم بِنا ، فَجَعَلَ بَلاءَنا حَسَناً ، وجَعَلَ عِلمَهُ عِندَنا وفَهمَهُ لَدَينا ، فَنَحنُ عَيبَةُ[8] عِلمِهِ ، ووِعاءُ فَهمِهِ وحِكمَتِهِ ، وحُجَّتُهُ عَلى‌ أهلِ الأَرضِ في بِلادِهِ لِعِبادِهِ ، أكرَمَنَا اللَّهُ بِكَرامَتِهِ ، وفَضَّلَنا بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى اللَّه عليه وآله عَلى‌ كَثيرٍ مِمَّن خَلَقَ تَفضيلاً بَيِّناً . فَكَذَّبتُمونا وكَفَّرتُمونا ، ورَأَيتُم قِتالَنا حَلالاً وأموالَنا نَهباً ! كَأَنَّنا أولادُ تُركٍ أو كابُلٍ‌[9] ، كَما قَتَلتُم جَدَّنا بِالأَمسِ ، وسُيوفُكُم تَقَطَّرُ مِن دِمائِنا أهلَ البَيتِ ، لِحِقدٍ مُتَقَدِّمٍ ، قَرَّت لِذلِكَ عُيونُكُم ، وفَرِحَت قُلوبُكُم ، افتِراءً عَلَى اللَّهِ ومَكراً مَكَرتُم ، «وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ» .[10] فَلا تَدعُوَنَّكُم أنفُسُكُم إلَى الجَذَلِ‌[11] بِما أصَبتُم مِن دِمائِنا ، ونالَت أيديكُم مِن أموالِنا ، فَإِنَّ ما

أصابَنا مِنَ المَصائِبِ الجَليلَةِ وَالرَّزايَا العَظيمَةِ «فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ *لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» .[12] تَبّاً لَكُم ، فَانتَظِرُوا اللَّعنَةَ وَالعَذابَ ، فَكَأَن قَد حَلَّ بِكُم ، وتَواتَرَت مِنَ السَّماءِ نَقِماتٌ ، فَيُسحِتُكُم بِعَذابٍ ويُذيقُ بَعضَكُم بَأسَ بَعضٍ ، ثُمَّ تُخَلَّدونَ فِي العَذابِ الأَليمِ يَومَ القِيامَةِ بِما ظَلَمتُمونا ، «أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ»[13] . وَيلَكُم ، أتَدرونَ أيَّةَ يَدٍ طاعَنَتنا مِنكُم ؟ ! وأيَّةَ نَفسٍ نَزَعَت إلى‌ قِتالنا ؟ ! أم بِأَيَّةِ رِجلٍ مَشَيتُم إلَينا تَبغونَ مُحارَبَتَنا ؟ ! قَسَت وَاللَّهِ قُلوبُكُم ، وغَلُظَت أكبادُكُم ، وطُبِعَ عَلى‌ أفئِدَتِكُم ، وخُتِمَ عَلى‌ أسماعِكُم وأبصارِكُم ، وسَوَّلَ لَكُمُ الشَّيطانُ وأملى‌ لَكُم ، وجَعَلَ عَلى‌ بَصَرِكُم غِشاوَةً فَأَنتُم لا تَهتَدونَ . فَتَبّاً لَكُم يا أهلَ الكوفَةِ ، أيُّ تِراتٍ لِرَسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله قِبَلَكُم ، وذُحولٍ لَهُ لَدَيكُم ، بِما عَنِدتُم بِأَخيهِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام جَدّي ، وبَنيهِ وعِترَةِ النَّبِيِّ الأَخيارِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيهِم ، وَافتَخَرَ بِذلِكَ مُفتَخِرُكُم فَقالَ : نَحنُ قَتَلنا عَلِيّاً وبَني عَلِيّ‌بِسُيوفٍ هِندِيَّةِ ورِماحِ‌

بِفيكَ أيُّهَا القائِلُ الكَثكَثُ‌[14] وَالأَثلَبُ ، افتَخَرتَ بِقَتلِ قَومٍ زَكّاهُمُ اللَّهُ وأذهَبَ عَنهُمُ الرِّجسَ وطَهَّرَهُم تَطهيراً ! فَاكظِم وأقعِ كَما أقعى‌[15] أبوكَ ، فَإِنَّما لِكُلِّ امرِئٍ مَا اكتَسَبَ وما قَدَّمَت يَداهُ . أحَسَدتُمونا - وَيلاً لَكُم - عَلى‌ ما فَضَّلَنَا اللَّهُ ؟ فَما ذَنبُنا أن جاشَ دَهراً بُحورُناوبَحرُكَ ساجٍ‌[16] لا يُواري الدَّعامِصا[17]

«ذَ لِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ »[18] ، «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ  » .[19] قالَ : وَارتَفَعَتِ الأَصواتُ بِالبُكاءِ ، وقالوا : حَسبُكِ يابنَةَ الطَّيِّبينَ ، فَقَد أحرَقتِ قُلوبَنا ، وأنضَجتِ نُحورَنا ، وأضرَمتِ أجوافَنا . فَسَكَتَت .
الملهوف : ص 194 .

[1] زيد بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام العلوي الطالبي ، يلقّب بزيد النار ، ثائر ، خرج في العراق مع أبي السرايا ، توفّي حوالي سنة 250 ه (راجع : الأعلام للزركلي : ج 3 ص 61) .

[2] الذَّحْل : الثأر ، وقيل : طلب مكافأة بجناية جُنيت عليك أو عداوة اُتيت إليك ، يقال : طلب بذَحلِهِ ؛ أي بثأره (لسان العرب : ج 11 ص 256 «ذحل») .
[3] الوَِتر وَالتِّرَة : الظلم في الذَّحل ، وقيل : هو الذَّحل عامّة . وكلّ من أدركته بمكروه فقد وتَرتَه (لسان العرب : ج 5 ص 274 «وتر») .
[4] ضامَهُ حَقَّهُ ضَيماً : نَقَصهُ إيّاه (لسان العرب : ج‌12 ص‌352 «ضيم») .
[5] النَّقِيْبَةُ : النّفْسُ ، وقيل : الطبيعة والخليقة (النهاية : ج 5 ص 102 «نقب») .
[6] العَرِيْكَةُ : الطبيعة (الصحاح : ج 4 ص 1599 «عرك») .
[7] الخيلاء - بالضمّ والكسر - : الكبر والعجب (لسان العرب : ج 11 ص 228 «خول») .
[8] العيبة : الوعاء (راجع : لسان العرب : ج 1 ص 634 «عيب») .
[9] لم يكن التُّرك والأفاغنة عندئذٍ من المسلمين ، بل كانوا أعداءَ الحكومة الإسلامية .
[10] آل عمران 3: 54 .
[11] الجذل - بالتحريك - : الفرح (الصحاح : ج 4 ص 654 «جذل») .
[12الحديد 57: 22 - 23 .
[13هود 11: 18 .
[14] الكَثْكَثُ والكِثْكِثُ : فُتات الحجارة والتراب ، مثل الأثْلَبُ والإثْلِبُ (الصحاح : ج 1 ص 290 «كثث») .
[15] أقْعى‌ : ألْصَقَ إلْيَتَيْهِ بالأرض ، ونصب ساقيه ، ووضع يديه على الأرض (المصباح المنير : ص 510 «قعي») .
[16] سَاجٍ : أي ساكن (النهاية : ج 2 ص 345 «سجا») .
[17] الدَّعاميصُ : جمع دعموص ؛ وهي دويبّة تكون في مستنقع الماء (النهاية : ج 2 ص 120 «دعمص») .
[18الحديد 57: 21 .
[19النور 24: 40 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لحم البقر بالسلق ، ومرق لحم البقر

    لحم البقر بالسلق *  ومرق لحم البقر *  السلق : نبت له ورق طوال ، وورقه يؤكل ( لسان العرب ج 10 ص 162 ).  1 -  عن محمّد بن قيس ، عن أبي ج...