الخميس، 2 مايو 2024

وصية الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام لعبد الله بن جندب

  هو عبد الله بن جندب البجلي الكوفي ثقة جليل القدر من أصحاب الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام وانه من المخبتين وكان وكيلا لأبي إبراهيم وأبى الحسن عليهما السلام. كان عابدا رفيع المنزلة لديهما على ما ورد في الاخبار. ولما مات رحمه الله قام مقامه علي بن مهزيار.

وصيته عليه السلام لعبد الله بن جندب روي أنه عليه السلام قال:

يا عبد الله لقد نصب إبليس حبائله في دار الغرور فما يقصد فيها إلا أولياءنا، ولقد جلت الآخرة في أعينهم حتى ما يريدون بها بدلا، ثم قال: آه آه على قلوب حشيت نورا وإنما كانت الدنيا عندهم بمنزلة الشجاع الأرقم والعدو الأعجم أنسوا بالله واستوحشوا مما به استأنس المترفون، أولئك أوليائي حقا، وبهم تكشف كل فتنة وترفع كل بلية.

يا ابن جندب حق على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه فيكون محاسب نفسه، فان رأى حسنة استزاد منها. وإن رأى سيئة استغفر منها لئلا يخزي يوم القيامة. طوبى لعبد لم يغبط الخاطئين على ما أوتوا من نعيم الدنيا وزهرتها، طوبى لعبد طلب الآخرة وسعى لها، طوبى لمن لم تلهه الأماني الكاذبة.
ثم قال عليه السلام: رحم الله قوما كانوا سراجا ومنارا، كانوا دعاة إلينا بأعمالهم ومجهود طاقتهم، ليس‌ [وا] كمن يذيع أسرارنا.

يا ابن جندب إنما المؤمنون الذين يخافون الله، ويشفقون أن يسلبوا ما أعطوا من الهدى، فإذا ذكروا الله ونعماءه وجلوا وأشفقوا، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا مما أظهره من نفاذ قدرته، وعلى ربهم يتوكلون.

يا ابن جندب قديما عمر الجهل وقوي أساسه وذلك لاتخاذهم دين الله لعبا حتى لقد كان المتقرب منهم إلى الله بعمله يريد سواه أولئك هم الظالمون.

يا ابن جندب لو أن شيعتنا استقاموا لصافحتهم الملائكة، ولأظلهم الغمام، و لأشرقوا نهارا، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولما سألوا الله شيئا إلا أعطاهم.

يا ابن جندب لا تقل في المذنبين من أهل دعوتكم إلا خيرا، واستكينوا إلى الله في توفيقهم، وسلوا التوبة لهم، فكل من قصدنا وتولانا، ولم يوال عدونا وقال ما يعلم، وسكت عما لا يعلم أو أشكل عليه فهو في الجنة.

يا ابن جندب يهلك المتكل على عمله، ولا ينجو المجترئ على الذنوب الواثق برحمة الله. قلت: فمن ينجو؟ قال: الذين هم بين الرجاء والخوف، كأن قلوبهم في مخلب طائر شوقا إلى الثواب وخوفا من العذاب.

يا ابن جندب من سره أن يزوجه الله الحور العين، ويتوجه بالنور فليدخل على أخيه المؤمن السرور.

يا ابن جندب أقل النوم بالليل والكلام بالنهار، فما في الجسد شئ أقل شكرا من العين واللسان، فان أم سليمان قالت لسليمان عليه السلام: يا بني إياك و النوم، فإنه يفقرك يوم يحتاج الناس إلى أعمالهم.

يا ابن جندب إن للشيطان مصائد يصطاد بها فتحاموا شباكه ومصائده قلت: يا ابن رسول الله وما هي؟ قال: أما مصائده فصد عن بر الاخوان، وأما شباكه فنوم عن قضاء الصلوات التي فرضها الله، أما إنه ما يعبد الله بمثل نقل الاقدام إلى بر الاخوان وزيارتهم، ويل للساهين عن الصلوات، النائمين في الخلوات، المستهزئين بالله وآياته في الفترات " أُولَٰئِكَ (الذين) لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْيَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [1] ".[1] آل عمران 3: 77.

يا ابن جندب من أصبح مهموما لسوى فكاك رقبته فقد هون عليه الجليل ورغب من ربه في الوتح الحقير ومن غش أخاه وحقره وناواه جعل الله النار مأواه، ومن حسد مؤمنا انماث الايمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء.

يا ابن جندب الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحط بدمه في سبيل الله يوم بدر واُحد، وما عذب الله أمة إلا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم.

يا ابن جندب بلغ معاشر شيعتنا وقل لهم: لا تذهبن بكم المذاهب فوالله لا تنال ولايتنا إلا بالورع والاجتهاد في الدنيا ومواساة الاخوان في الله. وليس من شيعتنا من يظلم الناس.

يا ابن جندب إنما شيعتنا يعرفون بخصال شتى: بالسخاء والبذل للاخوان وبأن يصلوا الخمسين ليلا ونهارا، شيعتنا لا يهرون هرير الكلب، ولا يطمعون طمع الغراب، ولا يجاورون لنا عدوا، ولا يسألون لنا مبغضا، ولو ماتوا جوعا، شيعتنا لا يأكلون الجري [1] ولا يمسحون على الخفين، ويحافظون على الزوال، ولايشربون مسكرا. قلت: جعلت فداك فأين أطلبهم؟ قال عليه السلام: على رؤوس الجبال وأطراف المدن. وإذا دخلت مدينة فسل [2] عمن لا يجاورهم ولا يجاورونه فذلك مؤمن كما قال الله: " وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } [3] " والله لقد كان حبيب النجار وحده.

[1] الجري - كذمي -: سمك طويل أملس وليس عليه فصوص. وقيل: مارماهى.
[2] الظاهر أن مراده عليه السلام في دولة الفسق وزمن الكفر.
[3] يس 36: 20.

يا ابن جندب كل الذنوب مغفورة سوى عقوق أهل دعوتك، وكل البر مقبول إلا ما كان رئاء.

يا ابن جندب أحبب في الله وابغض في الله، واستمسك بالعروة الوثقى، واعتصم بالهدى يقبل عملك فإن الله يقول: " (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهتَدَى )[1] " فلا يقبل إلا الايمان، ولا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بيقين، ولا يقين إلا بالخشوع وملاكها كلها الهدى، فمن اهتدى يقبل عمله وصعد إلى الملكوت متقبلا "وَاللَّهُ يَهْدِيمَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [2] ".
[1] طه 20: 82. وفى المصدر: الا من آمن وعمل صالحا ثم اهتدى ".
[2] البقرة 2: 213.

يا ابن جندب إن أحببت أن تجاور الجليل في داره، وتسكن الفردوس في جواره فلتهن عليك الدنيا، واجعل الموت نصب عينك، ولا تدخر شيئا لغد، و اعلم أن لك ما قدمت وعليك ما أخرت.

[5] الرزية: المصيبة أصله من رزأ أي أصاب منه شيئا ونقض. وفى بعض النسخ " أو ذرية " وهي الصواب.

يا ابن جندب من حرم نفسه كسبه فإنما يجمع لغيره، ومن أطاع هواه فقد أطاع عدوه، من يثق بالله يكفه ما أهمه من أمر دنياه وآخرته ويحفظ له ما غاب عنه. وقد عجز من لم يعد لكل بلاء صبرا ولكل نعمة شكرا، ولكل عسر يسرا، صبر نفسك عند كل بلية في ولد أو مال، أو رزية [1] فإنما يقبض عاريته ويأخذهبته ليبلو فيهما صبرك وشكرك، وارج الله رجاء لا يجرئك على معصيته،
 وخفه خوفا لا يؤيسك من رحمته، ولا تغتر بقول الجاهل ولا بمدحه فتكبر وتجبر و تعجب بعملك، فان أفضل العمل العبادة والتواضع، فلا تضيع مالك وتصلح مال غيرك ما خلفته وراء ظهرك، وأقنع بما قسمه الله لك، ولا تنظر إلا إلى ما عندك، ولا تتمن ما لست تناله، فان من قنع شبع، ومن لم يقنع لم يشبع، وخذ حظك من آخرتك، ولا تكن بطرا في الغنى، ولا جزعا في الفقر، ولا تكن فظا غليظا يكره الناس قربك ولا تكن واهنا يحقرك من عرفك، ولا تشار [2] من فوقك، ولا تسخر بمن هو دونك، ولا تنازع الامر أهله، ولا تطع السفهاء، ولا تكن مهينا تحت كل أحد، ولا تتكلن على كفاية أحد، وقف عند كل أمر حتى تعرف مدخله من مخرجه قبل أن تقع فيه فتندم، واجعل قلبك قريبا تشاركه [3] واجعل علمك والدا تتبعه، واجعل نفسك عدوا تجاهده، وعارية تردها، فإنك قد جعلت طبيب نفسك، وعرفت آية الصحة وبين لك الداء، ودللت على الدواء. فانظر قيامك على نفسك، وإن كانت لك يد عند إنسان فلا تفسدها بكثرة المنن والذكر لها، و لكن اتبعها بأفضل منها، فان ذلك أجمل بك في أخلاقك، وأوجب للثواب في آخرتك، وعليك بالصمت تعد حليما - جاهلا كنت أو عالما - فإن الصمت زين لك عند العلماء، وستر لك عند الجهال.

[1] الرزية: المصيبة أصله من رزأ أي أصاب منه شيئا ونقض. وفى بعض النسخ " أو ذرية " وهي الصواب.
[2] ولا تشار أي ولا تخاصم.
[3] في بعض النسخ " تتنازله " وفى بعضها " تشاوره ".

يا ابن جندب إن عيسى بن مريم عليه السلام قال لأصحابه: " أرأيتم لو أن أحدكم مر بأخيه فرأى ثوبه قد انكشف عن بعض عورته أكان كاشفا عنها كلها أم يرد عليها ما انكشف منها؟ قالوا: بل نرد عليها، قال: كلا، بل تكشفون عنها كلها - فعرفوا أنه مثل ضربه لهم - فقيل: يا روح الله وكيف ذلك؟ قال: الرجل منكم يطلع على العورة من أخيه فلا يسترها. بحق أقول لكم إنكم لا تصيبون ما تريدون إلا بترك ما تشتهون، ولا تنالون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون.
إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة. طوبى لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل بصره في عنيه لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب و انظروا في عيوبكم كهيئة العبيد. إنما الناس رجلان مبتلى ومعافي، فارحموا المبتلى واحمدوا الله على العافية ".

يا ابن جندب صل من قطعك، واعط من حرمك، وأحسن إلى من أساء إليك وسلم على من سبك، وأنصف من خاصمك، واعف عمن ظلمك، كما أنك تحب أن يعفى عنك، فاعتبر بعفو الله عنك، ألا ترى أن شمسه أشرقت على الأبرار و الفجار، وأن مطره ينزل على الصالحين والخاطئين.

يا ابن جندب لا تتصدق على أعين الناس ليزكوك، فإنك إن فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك، ولكن إذا أعطيت بيمينك فلا تطلع عليها شمالك، فإن الذي تتصدق له سرا يجزيك علانية على رؤوس الاشهاد في اليوم الذي لا يضرك أن لا يطلع الناس على صدقتك. واخفض الصوت، إن ربك الذي يعلم ما تسرون وما تعلنون، قد علم ما تريدون قبل أن تسألوه، وإذا صمت فلا تغتب أحدا، ولا تلبسوا صيامكم بظلم، ولا تكن كالذي يصوم رئاء الناس، مغبرة وجوههم، شعثة رؤوسهم، يابسة أفواههم لكي يعلم الناس أنهم صيام.

يا ابن جندب الخير كله أمامك، وإن الشر كله أمامك، ولن ترى الخير والشر إلا بعد الآخرة، لان الله عز وجل جعل الخير كله في الجنة والشر كله في النار، لأنهما الباقيان، والواجب على من وهب الله له الهدى وأكرمه بالايمان وألهمه رشده، وركب فيه عقلا يتعرف به نعمه، وآتاه علما وحكما يدبر به أمر دينه ودنياه [1] أن يوجب على نفسه أن يشكر الله ولا يكفره، وأن يذكر الله ولا ينساه وأن يطيع الله ولا يعصيه، للقديم الذي تفرد له بحسن النظر، وللحديث الذي أنعم عليه بعد إذ أنشأه مخلوقا، وللجزيل الذي وعده، والفضل الذي لم يكلفه من طاعته فوق طاقته وما يعجز عن القيام به وضمن له العون على تيسير ما حمله من ذلك
وندبه إلى الاستعانة على قليل ما كلفه وهو معرض [2] عما أمره وعاجز عنه قد لبس ثوب الاستهانة فيما بينه وبين ربه، متقلدا لهواه، ماضيا في شهواته، مؤثرا لدنياه على آخرته، وهو في ذلك يتمنى جنان الفردوس، وما ينبغي لاحد أن يطمع أن ينزل بعمل الفجار منازل الأبرار. أما إنه لو وقعت الواقعة، وقامت القيامة، وجاءت الطامة، ونصب الجبار الموازين لفصل القضاء، وبرز الخلائق ليوم الحساب أيقنت عند ذلك لمن تكون الرفعة والكرامة، وبمن تحل الحسرة والندامة، فاعمل اليوم في الدنيا بما ترجو به الفوز في الآخرة.
[1] " الواجب " مبتدأ وخبره جملة " أن يوجب على نفسه الخ ".
[2] الضمير يرجع إلى " من وهب الله ".

يا ابن جندب قال الله جل وعز في بعض ما أوحي: " إنما اقبل الصلاة ممن يتواضع لعظمتي، ويكف نفسه عن الشهوات من أجلي، ويقطع نهاره بذكري، ولا يتعظم على خلقي، ويطعم الجائع ويكسو العاري ويرحم المصاب ويؤوي الغريب [1] فذلك يشرق نوره مثل الشمس، أجعل له في الظلمة نورا وفي الجهالة حلما، أكلاه بعزتي [2] وأستحفظه ملائكتي، يدعوني فألبيه، ويسألني فاعطيه، فمثل ذلك العبد عندي كمثل جنات الفردوس لا يسبق أثمارها، ولا تتغير عن حالها.
[1] في بعض النسخ " ويواسي الغريب " يقال: واسى الرجل أي آساه وعاونه.
[2] كلا الله فلانا: حفظه وحرسه.

يا ابن جندب الاسلام عريان، فلباسه الحياء، وزينته الوقار، ومروته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكل شئ أساس، وأساس الاسلام جبنا أهل البيت.

يا ابن جندب إن لله تبارك وتعالى سورا من نور، محفوفا بالزبرجد و الحرير، منجدا بالسندس [1] والديباج، يضرب هذا السور بين أوليائنا وبين أعدائنا، فإذا على الدماغ وبلغت القلوب الحناجر ونضجت الأكباد من طول
الموقف ادخل في هذا السور أولياء الله، فكانوا في أمن الله وحرزه، لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. وأعداء الله قد ألجمهم العرق، وقطعهم الفرق، وهم ينظرون إلى ما أعد الله لهم، فيقولون: "  {مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ } [2] " فينظر إليهم أولياء الله فيضحكون منهم، فذلك قوله عز وجل:
 ( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَار ) [3] ". وقوله: "فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ  فلا يبقى أحد ممن أعان مؤمنا من أوليائنا بكلمة إلا أدخله الله الجنة بغير حساب.التحف ص : 301-307.

[1] منجدأ أي مزينا.
[2] ص 38 : 62 .
[3] ص 38: 63.
[4] المطففين 83 : 34، 35.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

استحباب تذاكر فضل الائمة ( عليهم السلام ) وأحاديثهم وكراهة ذكر أعدائهم

     استحباب تذاكر فضل الائمة ( عليهم السلام ) وأحاديثهم وكراهة ذكر أعدائهم 1 - عن علي بن أبي حمزة قال : سمعت  أبا عبدالله ( عليه السلام )  ...