الأربعاء، 5 يونيو 2024

مناقب أَبي جعفر الجواد عليه السلامُ ودلائله ومعجزاته

 طَرَفٍ من الأخبارِ عن مناقب أَبي جعفر عليه السلامُ ودلائِلهِ ومُعْجِزاتِه 

1 -  وكانَ المأمونُ قد شُعِفَ [1] بأَبي جعفر عليه السلام  لمّا رَأى مِن فضلهِ مع صِغَر سنِّه ، وبُلوغِه في العلمِ والحكمةِ والأَدبِ وكمالِ العقلِ ما لم يُساوِه فيه أحدٌ من مشايخ أَهلِ الزمانِ ، فزوّجه ابْنَتَه أُمَّ الفضلِ وحَمَلَها معه إِلى المدينةِ ، وكان مُتَوَفِّراً على إكرامِه وتعظيمِه وِإجلالِ قَدْرِه. [1] شعفت به وبحبه أي غشّى الحبُّ القلب من قوقه. «القاموس ـ شعف ـ 3 : 159 ». 

2 - عن الريان بن شبيب قالَ : لمّا أَرادَ المأمونُ أَن يُزوِّج ابْنَتَه أمَّ الْفَضْل أَبا جعفر محمد بن عليّ  عليه السلام بَلَغَ ذلك العباسيّين فغَلُظَ عليهم واسْتَكْبَروه ، وخافُوا أَنْ يَنْتَهِيَ الأمرُ معه إِلى ما انتَهى مع الرضا  عليه السلام فخاضوا في ذلك ، واجْتَمَعَ منهم أَهلُ بيته الأدْنَونَ منه فقالوا له : ننشدُك اللّهَ ـ يا أَميرَ المؤمنين ـ (أَنْ تُقيمَ ) [2] على هذا الأمرِ الذي قد عَزَمْتَ عليه من تزويج ابن الرضا ، فإنّا نخَافُ أَن يَخْرُجَ به عنّا أَمرٌ قد ملَّكَنَاهُ اللّهُ ، ويُنْزَعَ مِنّا عزٌّ قد أَلبَسَناه اللهُّ وقد عَرَفْتَ ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً ، وما كان عليه الخلفاءُ الراشدون قَبْلَكَ من تبعيدهم والتصغيرِ بهم ، وقد كُنّا في وَهْلةٍ من عَمَلِك مع الرضا ما عَمِلْتَ ، حتى كَفانَا اللّهُ المهمَّ من ذلك ، فاللّهَ اللّهَ أَنْ تَرُدَّنا إِلى غمٍّ قد انْحَسَرَ عنّا ، واصْرِفْ رَأْيَك عن ابن الرضا واعْدِلْ إِلى مَنْ تراه من أَهل بيتك يَصْلَحً لذلك دونَ غيره.
 [2] في هامش «ش» : أي أن لا تقيم.

فقالَ لهم المأمونُ : أَمّا ما بينكم وبينَ ال أَبي طالب فأَنتُمُ السَبَبُ فيه ، ولو أَنْصَفْتُمُ القَوْمَ لكانَ أَولى بكم ، وأَمّا ما كان يَفْعَله مَنْ كانَ قبلي بهم فقد كانَ قاطِعاً للرحِم ، أَعوذ باللهِّ من ذلك ، وواللّهِ ما نَدِمْتُ على ما كانَ منّي من استخلافِ الرضا ، ولقد سَألته أنْ يَقوُمَ بالأمْرِ وانزَعُه عن نفسي فأَبى ، وكانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ، وأَمّا أَبو جعفر محمّدُ بن عليّ فقد اخْترْته لتبريزه على كافةِ أَهْلِ الْفَضْلِ في العلمِ والْفَضْلِ مع صِغَرِ سِنِّه ، والأعجُوبة فيه بذلك ، وأَنا أَرْجُو أَنْ يَظْهَرَ للناسِ ما قد عَرَفْتُه منه فيَعْلَموا أَنّ الرأيَ ما رَأَيْتُ فيه.

 فقالوُا : إِنَ هذا الصبي وانْ راقَكَ منه هَدْيُه ، فإِنّه صبيٌّ لا معرفةَ له ولا فِقْهَ ، فأَمْهِلْه ليتأَدَّبَ ويَتَفَقَّهَ في الدين ، ثم اصْنَعْ ما تراه بعد ذلك.

 فقالَ لهم : ويحْكُم إِنّني أَعْرَفُ بهذا الفتى منكم ، وِانّ هذا من أَهل بَيْتٍ عِلْمُهم من اللّه ومَوادِّه والهامه ، لم يَزَلْ آباؤه أَغنياءَ في علمِ الدينِ والأدبِ عن الرعايا الناقصةِ عن حدِّ الكمالِ ، فانْ شِئْتُمْ فامْتَحِنُوا أَبا جعفرٍ بما يَتَبَيٌنُ لكم به ما وَصَفْتُ من حالِه. 

 قالوا له : قد رَضِيْنا لك يا أَميرَ المؤمنين ولانفُسِنا بامْتِحانِه ، فخلِّ بيننا وبينه لنَنْصِبَ مَنْ يَسْأله بحَضْرَتِك عن شيءٍ من فِقْه الشريعة ، فإِنْ أَصابَ في الجواب عنه لم يَكُنَْ لنا اعتراض في أَمْرِه وظَهَرَ للخاصةِ والعامةِ سَديد رَأْي أَميرِ المؤمنين ، وإنْ عَجَزَ عن ذلك فقد كُفْينا الخَطْبَ في معناه.

 فقالَ لهم المأمونُ : شأنَكم وذاك متى أَرَدْتُم. فخَرجوا من عنده  وأَجْمَعَ رَأيهُم على مسألةِ يحيى بن أَكْثَم وهو يومئذٍ قاضي القضاة [1] على أَنْ يَسْألَه مسألةً لا يَعْرِفُ الجوابَ فيها ، ووَعَدوهُ باَمْوالٍ نفيسةٍ على ذلك ، وعادُوا إلى المأمونِ فَسَأَلوه أَنْ يَخْتارَ لهم يوماً للاجتماع ، فأَجابَهُم إلى ذلك.

 واجْتَمَعُوا في اليوم الذي اتفَقوا عليه ، وحَضَرَ معهم يحيى بن أَكْثَم ، وأَمَرَ المأمونُ أَنْ يُفْرَشَ لأبي جعفر عليه السلام َدست [2] ، وتُجْعَلَ له فيه مِسْوَرتان [3] ، ففُعِلَ ذلك ، وخَرَجَ أَبو جعفر عليه السلام وهو يومئذٍ ابنُ تسع سنين وأشهُر ، فجَلَسَ بين المِسْوَرتَيْن ، وجَلَسَ يحيى بن أكثم بين يديه ، وقامَ الناسُ في مَراتبِهِم والمأمونُ جالسٌ في دَست مُتَّصِل بدَست أَبي جعفر عليه السلام

 فقالَ يحيى بن أَكثم للمأمونِ : يَأذَنُ لي أَمير المؤمنينَ أَنْ أَسْأَلَ أَبا جعفر؟ فقالَ له المأمونُ : اسْتَأْذِنْه في ذلك ، فاَقْبَلَ عليه يحيى بن أَكثم فقالَ : أَتَاْذَنُ لي ـ جُعِلْتُ فداك ـ في مَسْألَةٍ؟ فقالَ له أَبو جعفر عليه السلام : «سَلْ إِنْ شِئْتَ » قالَ يحيى : ما تَقولُ ـ جُعِلْتُ فداك ـ في مُحرِمِ قَتَلَ صَيْداً؟

 فقال له أَبو جعفر: «قَتَلَه في حِلٍّ أَو حَرَم؟ عالماً كانَ المُحْرِمُ أَم جاهلاً؟ قَتَلَه عَمْداً أَو خَطَأ؟ حُراً كانَ المُحْرِمُ أَم عَبْدا ً؟ صَغيراً كانَ أَم كبيراً؟ مُبْتَدِئاً بالقتلِ أَمْ مُعيداً؟ مِنْ ذَواتِ الطيرِ كانَ الصيدُ أَمْ من غيرِها؟ مِنْ صِغارِ الصيد كانَ أَم كِبارِها [4] مصُرّاً على ما فَعَلَ أَو نادِماً؟ في الليلِ كانَ قَتْلَهُ للصيدِ أَم نَهاراً؟ مُحْرِماً كانَ بالعُمْرةِ إذْ قَتَلَه أَو بالحجِّ كانَ مُحْرِماً»؟

[1] في « م» وهامش « ش» : الزمان. [2] أي جانب من البيت ، وهي فارسية معرّبة. [3] في هامش «ش» : المسورة : متكأ من أدَم. [4] في «م» وهامش «ش» : كباره.

 فتَحَيَّرَ يحيى بن أَكثم وبانَ في وجهه الْعَجْزُ والانقطاعُ ولَجْلَجَ حتى عَرَفَ جمَاعَةُ أَهْلِ المجلس أمْرَه ، فقالَ المأمونُ : الحمدُ لله على هذه النعمة والتوفيقِ لي في الرأْي. 
ثم نَظَرَ إِلى أَهْلِ بَيْتِه وقالَ لهم : أَعَرَفتمُ الآنَ ما كُنْتُم تُنْكِرُونَه؟ ثم أَقْبَلَ على أَبي جعفر عليه السلام فقالَ له : أَتَخْطُب يا أَبا جعفر؟

 قالَ : «نعم يا أميرَ المؤمنين » فقالَ له المأمونُ : اُخْطُبْ ، جُعِلْتُ فداكَ لِنَفْسِكَ ، فقد رَضيتُكَ لِنَفْسي وأَنا مُزَوِّجُكَ أُمَّ الفَضْل ابَنتي وِان رَغَمَ قومٌ لذلك. 
 فقال أَبو جعفر عليه السلام : «الحمد للهّ إِقراراً بنعمتِه ، ولا إِلهَ إلا اللّه إِخْلاصاً لوَحْدانِيتهِ ، وصَلىّ اللّهُ على محمّدٍ سيِّدِ بَرِيَّتِه والأصْفياءِ من عترتهِ. 
 أَمّا بَعْدُ : فقد كانَ من فَضْل اللّه على الأنام أَنْ أَغناهُم بالحلالِ عن الحَرامِ ، فقالَ سُبْحانَه : ( وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [1] ثمَّ إِنَّ محمّد بن عليّ بن موسى يَخْطُبُ أُمَّ الفَضْلِ بنْتَ عبداللهِّ المأمونِ ، وقد بَذَلَ لها من الصداقِ مَهْرَ جَدَّتِه فاطمة بنت محمّد عليها السلام وهو خمسمائة درهم جياداً ، فهَلْ زَوَّجْتَه يا أَميرَ المؤمنين بها على هذا الصداقِ المذكور؟ ». [1] النور 24 : 32.
قالَ المأمونُ : نعم ، قد زَوَجْتُك أَبا جعفرأُم الفضل ابْنَتي على هذا الصداق المذكور ، فهل قَبِلْتَ النكاحَ؟
 قالَ أًبو جعفر عليه السلام  : «قد قَبِلْتُ ذلك ورَضِيتُ به».
 فاَمَرَ المأمونُ أَنْ يَقْعُدَ الناسُ على مَراتِبهِم في الخاصّةِ والعامّةِ.
 قالَ الريان : ولم نَلْبثْ أَنْ سَمِعْنا أَصْواتاً تُشْبِهُ أَصْواتَ المَلاحينَ في مُحاوَراتهم ، فإذا الخدم يَجُرُّون سفينةً مَصْنُوعةً من فِضَةٍ مَشْدُودةٍ بالحِبالِ من الإبريسم على عَجلٍ مملؤةً من الغاليةِ [1] ، فأمَرَ المأمونُ أنْ تُخْضَبَ لِحَى الخاصّة من تلك الغاليةِ ، ثُمَّ مُدَّت إِلى دارِ العامّة فطُيِّبوا منها ، ووُضِعَتِ الموائدُ فأكَلَ الناسُ ، وخَرَجَتِ الجوائزُ إِلى كُلِّ قوم على قدرهم ، فلما تَفَرَّقَ الناسُ وبَقِيَ من الخاصةِ مَنْ بَقي ، قالَ المأمونُ لأبي جعفر:
 إِنْ رَأيتَ ـ جُعِلْتُ فداك ـ أنْ تَذْكُرَ الفِقْهَ فيما فَصلْته من وُجُوه قَتْلِ المُحْرمِ الصيدَ لِنَعْلَمَه ونَسْتَفيدَه. 

 فقالَ أَبو جعفر عليه السلام  : «نعم» إِنَ المُحرمَ إذا قَتَلَ صَيْداً في الحِل وكانَ الصَيْدُ من ذواتِ الطَّيْرِ وكانَ من كِبارِها فعليه شاةٌ ، فإِنْ كانَ أَصابَه في الحَرَم فعليه الجزاءُ مُضاعَفاً ، وإذا قَتَلَ فَرْخاً في الحِلِّ فعليه حَمْل قد فُطِمَ منَ اللبن ، وإذا قَتَله في الحرم فعليه الحمْلُ وقيمةُ الفَرْخِ ، وان كانَ من الوحْشِ وكانَ حمارَ وَحْشٍ فعليَه بَقَرَةٌ ، وِان كانَ نَعامةً فعليه بدنة ، وإن كانَ ظَبْياً فعليه شاةٌ ، فإِن قَتَلَ شَيئأ من ذلك في الحَرَمِ فعليه الجزاءُ مُضاعَفأ هَدْياً بالغَ الكعبةِ ، وِاذا أَصابَ المُحْرِمُ ما يجب عليه الهَدْي فيه وكانَ إِحْرامُه للحجِّ نَحَرَه بمنى ، وان كانَ إِحرامُه للعُمْرة نَحَرَه بمكّةَ.

 وجزاءُ الصَيْدِ على العالِم والجاهِل سواء ، وفي العَمْدِ له المأثَمُ ، وهو موضوعٌ عنه في الخَطَأ ، والكفّارةُ على الحرِّ في نفسه ، وعلى السيد في عبدِه ، والصغيرُ لا كفّارةَ عليه ، وهي على الكبير واجبة ، والنادِمُ يَسْقُطُ بنَدمِه عنه عقابُ الآخِرَة ، والمُصِرُّ يجب عليه العقابُ في الآخِرَةِ». 
[1] الغالية : ضرب من الطيب مركب من مسك وعنبر وكافور ودهن البان وعود. «مجمع البحرين ـ غلا ـ 1 : 319».

 فقالَ له المأمونُ : أَحْسَنْتَ ـ أَبا جعفر ـ أحْسَنَ اللهُ إِليك ، فإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَسْألَ يحيى عن مسألةٍ كما سَأَلك.
 فقالَ أَبو جعفر ليحيى : «أَسْأَلُك؟».
 قالَ : ذلك إِليك ـ جُعِلْتُ فداك ـ فإِنْ عَرَفْتُ جوابَ ما تَسْأَلُني عنه وِالا اسْتَفَدْتُه منك. 
 فقالَ له أَبو جعفر عليه السلام 
«خَبِّرْني عن رجل نَظَرَ إِلى امْرأةٍ في أَوّل النهارِ فكانَ نَظَرُه إِليها حراماً عليه ، فلمّا ارْتَفَعَ النهارُ حَلَتْ له ، فلمّا زالَتِ الشمسُ حَرُمَتْ عليه ، فلمّا كانَ وَقْتَ العصرِ حَلَّتْ له ، فلما غَربتَ الشمسُ حرُمتْ عليه ، فلما دَخَلَ عليه وَقْتُ العشاءِ الآخرةِ حَلَّتْ له ، فلمّا كانَ انْتِصاف الليلِ حَرُمَتْ عليه ، فلما طَلَعَ الفجرُ حَلَّتْ له ، ما حالُ هذه المرأة وبماذا حلَتْ له وحَرُمَتْ عليه؟».
 فقالَ له يحيى بن أكثم : لا واللهِ ما أَهْتَدي إِلى جواب هذا السؤالِ ، ولا أعَرِفُ الوجهَ فيه ، فإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُفيدَناه. 

 فقالَ له أَبو جعفر عليه السلام  : «هذه أمَةٌ لرجلٍ من الناسِ نَظَرَ إِليها أجنبيٌّ في أَوّل النهارِ فكانَ نَظَرُه إِليها حراماً عليه ، فلمّا ارْتَفَعَ 
النهار ابْتاعَها من مولاها فحلَّتْ له ، فلمّا كانَ الظهرُ أَعْتَقَها فحَرُمَتْ عليه ، فلمّا كانَ وَقْتُ العصرِ تَزوَّجَها فحَلَّتْ له ، فلمّا كانَ وَقْتُ المغرب ظاهَرَ منها فَحرُمَتْ عليه ، فلمّا كانَ وَقْتُ العشاءِ الآخرةِ كَفَّرَ عن الظِهارِ فَحلَتْ له ، فلمّا كانَ نصفُ الليل طَلَّقها واحدةً فَحرُمَتْ عليه ، فلمّا كانَ عند الفَجْرِ راجَعَها فحلَّتْ له ». 

 قالَ : فاَقْبَل المأمونُ على مَنْ حَضَرَه من أَهْل بيته فقالَ لهم : هل فيكم أحدٌ يجُيبُ عن هذه المسألةِ بمِثْل هذا الجواب ، أَو يَعْرفُ القولَ فيما تَقَدَّم من السؤالِ؟! قالوُا : لا واللهِ ، إن أَميرَ المؤمنين أعْلَمُ وما رَأى. فقالَ لهم : 
ويَحْكم ، إِنَّ أَهْلَ هذا البيتِ خُصُّوا من الخَلْقِ بما تَرَوْنَ من الْفَضلِ ، وإن صِغَرَ السِنِّ فيهم لا يَمْنَعُهُمْ من الكَمالِ ، أَما عَلِمْتمْ أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه واله وسلم افْتَتَحَ دَعْوَتَه بدعاءِ أَميرِ المؤمنين عليِّ بن أَبي طالب  عليه السلام  وهو ابن عَشْرِ سنينَ ، وقَبِلَ منه الإسلامَ وحَكَمَ له به ، ولم يَدْعُ أَحَداً في سنِّه غيره. وبايَعَ الحسنَ والحسينَ عليهما السلام وهما ابنا دونَ الستّ سنين ولُم يبايِعْ صبيّاً غيْرَهما ، أَفلا تَعْلَمونَ الأن ما اخْتَصَّ اللهُ به هؤلاءِ القومَ ، وأَنهُم ذريّةٌ بَعْضُها من بعضٍ ، يَجْري لآخِرِهم ما يَجْري لأوَلِّهم؟! 

 قالوُا : صَدَقْتَ يا أَميرَ المؤمنين ، ثمَّ نَهَضَ القَوْمُ. فلمّا كانَ من الغدِ اُحْضِرَ الناسُ ، وحَضَرَ أَبو جعفر عليه السلام ، وصارَ القُوّادُ والحُجّابُ والخاصّةُ والعُمّالُ لتَهْنِئَةِ المأمون وأبي جعفر عليه السلام ، فأخْرِجَتْ ثلاثةُ أَطباق من الفِضَّةِ فيها بَنادِقُ مِسكٍ
وزَعْفَرانٍ معجون ، في أجوافِ تلك البَنادِق رِقاع مكتوبةٌ بأَمْوالٍ جزيلةٍ وعطايا سَنِيَّة واِقطاعاتٍ ، فأَمَرَ المأمونُ بنَثْرِها على القوم مِنْ خاصَتِهِ ، فكانَ كُلُّ من وَقَعَ في يَدِه بُندُقة ، أَخْرَجَ الرُقْعَةَ التي فيها والْتَمَسَه فاُطلِقَ له. 

ووُضِعَتِ البدَر ، فنُثِرَ ما فيها على القُوّادِ وغيرِهم ، وانْصَرَفَ الناسُ وهم أغنياءُ بالجوَائزِ والعطايا. وتَقََمَ المأْمونُ بالصدَقَةِ على كافةِ المساكين. ولم يَزَلْ مُكْرماً لأبي جعفر عليه السلام مُعظِّماً لقَدْرِه مدَّةَ حياتِه ، يؤثرهُ على ولده وجماعةِ أَهل بَيْتِهِ . 

 وقد رَوَى الناسُ : أَنَّ أُمَّ الفَضْلِ بنتَ المأمون كَتَبَتْ إلى أَبيها من المدينةِ تَشْكُو أَبا جعفر عليه السلام وتَقُولُ : إِنَه يَتَسَرّى [1] علي ويغيرُني ، فكتَبَ إِليها المأمونُ : يا بُنيّة ، إنّا لم نُزَوِّجُك أَبا جعفر لتُحَرِّمي [2] عليه حلالاً ، فلا تُعاوِدي لِذكْرِ ما ذَكَرْتِ بعدَها . 

 ولمّا تَوَجَّه أَبو جعفر  عليه السلام من بغداد منصرِفاً من عند المأمون ومعه أُمُّ الفضلِ قاصداً بها المدينةَ ، صارَ إِلى شارع باب الكوفةِ ومعه الناس يُشَيّعونَه ، فانْتهَى إِلى دار المُسيّب عند مَغيب الشمس ، نَزَلَ ودَخَلَ المسْجدَ ، وكانَ في صَحْنِه نَبْقَةٌ [3] لم تَحْمِلْ بعدُ ، فدعا بكوُزٍ فيه ماءٌ فتَوَضَّأ في أَصْل النَبْقَةِ فصلى بالناسِ صلاةَ المغربِ ، فقَرَأَ في الأولى منها الحمد وِإذا جاء نصرُ اللهّ ، وقَرَأ في الثانية الحمد وقُلْ هو الله أحد ، وقَنَتَ قَبْلَ ركوعِه فيها ، وصَلّى الثالثة وتشًهَّدَ وسلَّمَ ، ثم جَلَسَ هُنيهَةً يَذْكُرُ اللهَ تعالى ، وقامَ من غير تعقيبٍ فصَلى النوافلَ أَربَعَ ركعاتٍ ، وعَقَّبَ بَعْدَها وسَجَدَ سَجْدَتَي الشُكر ، ثم خَرَجَ. فلمّا انتَهى إِلى النَبْقَةِ رَآها الناسُ وقد حَمَلَتْ حَمْلاً حَسَناً فتَعجّبُوا من ذلك وأَكَلُوا منها فوَجَدُوه نَبْقاً حُلْواً لا عَجْمَ له. الإرشاد :  ص 404 - 409 .


 [1] السُّرّيّة : الجارية المتخذه للجماع منسوبة الى السر «القاموس 2 :47 ، لسان العرب 4 : 358». 
 [2] في «م» وهامش «ش» : لنحرّم.
[3] النبقة : النَبق ـ بفتح النون وكسر الباء ، وقد تسكّن : ثمر السدر «النهاية ـ نبق ـ 5 : 10 ».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المنزلة العظيمة لمن لا يأنف من خدمة زوجته وعياله

   استحباب العمل في البيت للرجل والمرأة 1 - عن  عليّ (عليه السلام)  قال : «دخل علينا  رسول الله (صلّى الله عليه وآله)  و فاطمة (عليه السلام)...