الفرق بين الحيل و المعجزات
أما بعد حمد الله تعالى الذي فرق لجميع المكلفين بين الحق و الباطل و الصلاة على محمد و آله الذين أعادوا الدين كعود الحلي إلى العاطل .
فإني أذكر ما ينكشف به الفصل بين الحيل و المعجزات و يظهر به الشعوذة و المخاريق و حقيقة الدلالات و العلامات لكل ذي رأي صائب و نظر ثاقب و الله الموفق و المعين .
ذكر الحيل و أسبابها و آلاتها و كيفية التوصل إلى استعمالها و ذكر وجه إعجاز المعجزات
اعلم أن الحيل هي أن يرى صاحب الحيلة الأمر في الظاهر على وجه لا يكون عليه و يخفى وجه الحيلة فيه نحو عجل السامري الذي جعل فيه خروقا تدخل فيها الريح فيسمع منه صوت .
و منها : مخرقة المشعبذ نحو أن يرى الناظر ذلك في خفة حركاته كأنه ذبح حيوانا و لا يذبحه في الحقيقة ثم يرى من بعد أنه أحياه بعد الذبح
و يشبه هذا الجنس من الحيل السحر .
و ليست معجزات الأنبياء و الأوصياء (عليه السلام) من هذا الجنس لأن الذي يأتون به من المعجزات يكون على ما يأتون به .
و العقلاء يعلمون أنها كذلك لا يشكون فيه و أنه ليس فيها وجه حيلة نحو قلب العصا حية و إحياء الميت و كلام الجماد
و الحيوانات من البهائم و السباع و الطيور على الاستمرار في أشياء مختلفة و الإخبار عن الغيب و الإتيان بخرق العادة و نحو القرآن في مثل بلاغته و الصرفة و إن كان يعلم كونه معجزا أكثر الناس بالاستدلال .
و لهذا قال تعالى في قوم فرعون و ما رأوه من معجزات موسى على نبينا و عليه السلام
وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا .
فصل :
الحيل و السحر و خفة اليد لها وجوه :
و اعلم أن الحيل و السحر و خفة اليد لها وجوه متى فتش عنها المعني بذلك فإنه يقف على تلك الوجوه و لهذا يصح فيها التلمذ و التعلم و لا يختص به واحد دون آخر .
مثاله أن المحتالين يأخذون البيض و يضعونه في الخل و نحوه و يتركونه يومين و ثلاثة حتى يصير قشره الفوقاني لينا بحيث يمكن أن يطول فإذا صار طويلا بمده كذلك يطرح في قارورة ضيقة الرأس فإذا صار فيها يصب فيها الماء البارد و تحرك القارورة
حتى يصير البيض مدورا كما كان و يذهب ذلك اللين من قشره الفوقاني بذلك بعد ساعات و يشتد بحيث ينكسر انكساره أولا فيظن الغفلة أن المعجز مثله و هو حيلة .
و نحو ذلك ما ألقى سحرة فرعون من حبالهم و عصيهم حتى خيل إلى الناظر إليها من سحرهم أنها تسعى احتالوا في تحريك العصا و الحبال لأنهم جعلوا فيها من الزئبق فلما طلعت الشمس عليها تحركت بحرارة الشمس .
و غير ذلك من أنواع الحيل و أنواع التمويه و التلبيس و خيل إلى الناس أنها تتحرك كما تتحرك الحية و إنما سحروا أعين الناس لأنهم أروهم شيئا لم يعرفوه و دخل عليهم الشبهة في ذلك لبعده منهم فإنهم لم يتركوا الناس يدخلون بينهم .
و في هذه دلالة على أن السحر لا حقيقة له لأنها لو صارت حيات حقيقة لم يقل الله تعالى سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ بل كان يقول سبحانه فلما ألقوا صارت حيات ثم قال تعالى وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ أي ألقاها فصارت ثعبانا فإذا هي تبتلع ما يأفكون فيه من الحبال و العصي و إنما ظهر ذلك للسحرة على الفور لأنهم لما رأوا تلك الآيات و المعجزات في العصا علموا أنه أمر سماوي لا يقدر عليه غير الله تعالى .
فمن تلك الآيات قلب العصا حية .
و منها : أكلها حبالهم و عصيهم مع كثرتها .
و منها : فناء حبالهم و عصيهم في بطنها إما بالتفرق أو الخسف و إما بالفناء عند من جوزه .
و منها : عودها عصا كما كانت من غير زيادة و لا نقصان و كل عاقل يعلم أن مثل هذه الأمور لا تدخل تحت مقدور البشر فاعترفوا كلهم و اعترف كثير من الناس معهم بالتوحيد و النبوة و صار إسلامهم حجة على فرعون و قومه .
فصل :
معجزات الأنبياء و الأوصياء (عليهم السلام) :
و أما معجزات الأنبياء و الأوصياء (عليهم السلام) فإن أعداء الدين يعتنون بالتفتيش عنها فلم يعثروا على وجه حيلة فيها .
و كذلك كل من سعى في كشف عوراتهم و تكذيبهم يفتش عن دلالاتهم أ هي شبهات أم لا فلم يوقف فيها على مكر و خديعة منهم (عليهم السلام) و لا في شيء من ذلك .
أ لا ترى أن سحرة فرعون كانت همتهم أشد في تفتيش معجزة موسى على نبينا و عليه السلام فصاروا هم أعلم الناس بأن ما جاء به موسى (عليه السلام) ليس بسحر و هم كانوا أحذق أهل الأرض بالسحر و آمنوا و قالوا لفرعون وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا * رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ فقتلهم فرعون و هم يقولون لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ .
و قيل إن فرعون لم يصل إليهم و عصمهم الله تعالى منه .
فصل :
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يذكر أخبار الأولين و الآخرين:
و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يذكر أخبار الأولين و الآخرين من ابتداء خلق الدنيا إلى انتهائها و أمر الجنة و النار و ذكر ما فيها على الوجه الذي صدقه عليها أهل الكتاب و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتعلم و لم يقعد عند حبر و لم يقرأ الكتب .
و إذا كان كذلك فقد بان اختصاصه بمعجزة لأن ما أتى به من هذه الأخبار لا على الوجه المعتاد في معرفتها من تلقفها من ألسنة الناطقين لا يكون إلا بدلالة تكون علما على صدقه .
و ما أخبر به عن الغيوب التي تكون على التفصيل لا على الإجمال كقوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فكان كما أخبر به .
و لم يكن عليه و آله السلام صاحب تقويم و حساب و أسطرلاب و معرفة مطلع نجم و ريح و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) ينكر على المنجمين فيقول
من أتى عرافا أو كاهنا فآمن بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
و قد علمنا أن الإخبار عن الغيوب على التفصيل من حيث لا يقع فيه خلاف بقليل و لا بكثير من غير استعانة على ذلك بآلة و حساب و تقويم كوكب و طالع أو على التنجيم الذي يخطئ مرة و يصيب مرة لا يمكن إلا من ذي معجزة مخصوصة قد خصه الله تعالى بها بإلهام من عنده أو أمر يكون ناقضا للعادة الجارية في معرفة مثلها إظهارا لصدق من يظهرها عليه و علامة له .
فصل :
و اعلم أن ما تضمنه القرآن أو الأحاديث الصحيحة من الإخبار عن الغيوب الماضية و المستقبلة فأما الماضية فكالإخبار عن أقاصيص الأولين و الآخرين من غير تعلم من الكتب المتقدمة على ما ذكرنا .
و أما المستقبلة فكالإخبار عما يكون من الكائنات فكان كما أخبر عنها على الوجه الذي أخبر عنها على التفصيل من غير تعلق بما يستعان به على ذلك من تلقين ملقن أو إرشاد مرشد أو حكم بتقويم أو رجوع إلى حساب كالكسوف و الخسوف و من غير اعتماد على أسطرلاب و طالع .
و ذلك كقوله تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ و كقوله تعالى مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ .
و كقوله تعالى سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ .
و كقوله تعالى لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً .
و كقوله تعالى فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا .
و كقوله تعالى وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها إلى قوله قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها و نحو ذلك من الآيات و كانت كلها كما قال تعالى .
و الأحاديث في مثل ذلك كثيرة لا يتفق أمثالها على كثرتها مع ما فيها من تفصيل الأحكام المفصلة عن المنجمين فتقع كلها صدقا فيعلم أن ذلك بإلهام ملهم علام الغيوب معرفا له حقائق الأمور .
و وجه آخر و هو ما في القرآن و الأحاديث من الإخبار عن الضمائر مثل قوله تعالى إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا من غير أن يظهر منهم قول أو فعل بخلاف ذلك .
و كذلك قوله تعالى وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ من غير أن يسمعه أحد منهم فلا ينكرونه .
و كذلك قوله تعالى وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ
غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ فأخبره تعالى بما يريدون في أنفسهم و ما يهمون به .
و كعرضه تعالى تمني الموت على اليهود في قوله تعالى فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ .
و قوله تعالى وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ .
فعرفوا صدقه فلم يجسر أحد منهم أن يتمنى الموت لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لهم إن تمنيتم الموت متم فدل جميع ذلك على صدقه بإخباره عن الضمائر .
و كذلك ما ذكرناه من معجزات الأوصياء يدل على صدقهم و كونهم حججا لله تعالى .
فصل :
فإن قيل فما الدليل على أن أسباب الحيل مفقودة في أخباركم حتى حكمتم بصحة كونها معجزة .
قلنا كثير من تلك المعجزات لا يمكن فيها الحيل مثل
انشقاق القمر و حديث الاستسقاء و إطعام الخلق الكثير من الطعام اليسير و خروج الماء من بين الأصابع و الإخبار بالغائبات قبل كونها و مجيء الشجرة ثم رجوعها إلى مكانها لا تتم الحيلة فيها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق